
للتواصل معنا
ملخص كتاب تهافت الفلاسفة للعالم أبي حامد الغزالي، في زمنٍ ازدهر فيه الفكر الفلسفي وتلاقحت فيه العقول بين مدارس الشرق والغرب ظهر صوتٌ مختلف يحمل سيف النقد لا لتهديم الفلسفة بل لتخليصها من الغرور وإعادتها إلى مسار النور، إنه صوت أبي حامد الغزالي الذي خطَّ كتاب تهافت الفلاسفة ليكون قنبلةً فكرية فجّرت الصمت والاتباع الأعمى للفلاسفة العقليين من أمثال ابن سينا والفارابي الذين غالوا في تأليه العقل وتقديمه على النص.
كتاب تهافت الفلاسفة ليس مجرد ردٍ عابر بل بيان علمي نقدي متماسك انتقد فيه الغزالي سبعة عشر مسألة فلسفية عدّها مخالفة لصريح العقل والنقل، تناول فيه قضايا وجود الله وصفاته وحدوث العالم والمعاد والنبوة بأسلوب فلسفي يتقن لغتهم ويكشف تناقضاتهم بأسلوبهم، فجعل من نفسه ندًا لا تلميذًا، ورد عليهم بما لا يستطيعون دفعه.
استهل الغزالي تهافت الفلاسفة بالاعتراف بقيمة المنطق والرياضيات، لكنه فصّل بين ما هو يقيني مما هو موهوم، وفند ادعاءات الفلاسفة في المسائل الإلهية خصوصًا في قولهم بقدم العالم وإنكارهم لعلم الله بالجزئيات وإنكار البعث الجسدي، وقد كفرهم في هذه المواضع صراحة لا لمجرد الاختلاف بل لأنها تناقض أصول الإيمان كما فهمها.
ما يميز كتاب تهافت الفلاسفة أن الغزالي لم يكن خطيبًا أو فقيهًا فقط بل كان دارسًا للفلسفة على أصولها، فقد تعمق في كتب أرسطو وأفلاطون ودرس علوم الفلاسفة المسلمين حتى أتقنها، ثم خلع ثوبهم عن وعي فكان نقده لهم من داخل بنيتهم الفكرية لا من خارجها، ولهذا بقي أثر هذا الكتاب حياً في أروقة الجدل الفلسفي حتى اليوم.
وما بين صفحات كتاب تهافت الفلاسفة يلوح نزاع خفي بين العقل والوحي بين الفلسفة والشرع بين التأمل الإغريقي والإيمان الإسلامي، فالغزالي أراد أن يضع حدودًا لما يمكن للعقل أن يخوض فيه، وسعى لتهذيب الفلسفة لا لنسفها فهو لم ينكر علوم الطبيعة أو المنطق، بل رفض فقط أن تكون العقلانية بديلاً للوحي أو معيارًا لما يجب الإيمان به.
ولأن تهافت الفلاسفة لم يكن النهاية بل البداية، فقد جاء ابن رشد بعده ليكتب تهافت التهافت في رد على الغزالي مدافعًا عن الفلاسفة ونافياً عنهم التناقض، محاولًا بعث الفلسفة من جديد بعد أن كاد الغزالي يدفنها، لكن رغم أن ابن رشد أعاد للفلسفة بعض مجدها فإن كتاب تهافت الفلاسفة بقي حجر الأساس في تأسيس نقد العقل بالعقل.
الملفت أن أبا حامد الغزالي تهافت الفلاسفة لم يكن عدوًا للفكر الحر بل كان ضميرًا قلقًا يبحث عن يقين ثابت وسط بحر متلاطم من الأفكار، ولهذا لم يتوقف نقده عند الفلاسفة بل طال المتكلمين وأهل الظاهر والمتصوفة الذين انحرفوا في فهم الدين، فكان كتابه صرخة إصلاح لا مجرد موقف دفاعي.
وقد فاق تأثير كتاب تهافت الفلاسفة حدود الفقه والكلام ليصل إلى عقول الأوروبيين لاحقًا الذين وجدوا في هذا النقد العقلاني أسلوبًا لمراجعة فلسفاتهم الخاصة، فالغزالي تهافت الفلاسفة كشف بذكاء أن التناقض لا يخص الدين وحده بل يتسلل كذلك إلى صرح الفلسفة إذا لم تُبْنَ على يقين.
لقد ألف كتاب تهافت الفلاسفة حين شعر أن الأمة توشك أن تُستَلب من عقلها العقدي وتسير خلف البريق الفلسفي دون تمحيص، وكان كتابه محاولة لاستعادة مركزية الوحي في التفكير الإسلامي دون إلغاء دور العقل بل من خلال ترتيب العلاقة بينهما، حيث يكون العقل خادمًا للشرع لا سيدًا عليه.
من هنا يبقى كتاب تهافت الفلاسفة شاهدًا على معركة فكرية شرسة خاضها الغزالي بسلاح الحجة والمنطق لا بالعاطفة والرفض المجرد، فكان منارة لقرون تضيء لكل من أراد أن يسلك طريق البحث لا الانبهار طريق الغربلة لا التقليد، وفي كل صفحة منه يشعر القارئ أن الصراع بين الإيمان المجرد والعقل المطلق ما زال قائمًا في أشكال جديدة إلى يوم الناس هذا.