
للتواصل معنا
رواية الأشجار ليست عمياء للكاتبة شيماء هشام سعد، هي رحلة سردية آسرة تسلط الضوء على قضايا اللجوء الفلسطيني وفلسفة التشبث بالأرض في وجه الموت نفسه، تبدأ رواية الأشجار ليست عمياء بحادثة غرائبية تهز القارئ من اللحظة الأولى حيث تموت حبهان الزوجة والأم، لكن عبود زوجها يعود من دفنها ليجدها تنتظره في البيت تطوي الغسيل وتتصرف كأنها لم تفارق الحياة، وتتصاعد الحبكة رويدًا لتكشف عن عجز عبود عن إقناعها بأنها أصبحت تنتمي للعالم الآخر.
تدور أحداث رواية الأشجار ليست عمياء في مدينة فيرفاكس بولاية فرجينيا الأميركية، حيث عاشت هذه العائلة الفلسطينية التي ضمت عبود وحبهان وأبناؤهما الأربعة: أمينة وصفية وضحى ويوسف، فيما ألقى ظلاله أيضاً غياب الابن إبراهيم الذي أودت به ضغوط الحياة القاسية إلى الانتحار تحت وطأة قهر معلمته الإسرائيلية.
اختارت الكاتبة شيماء هشام سعد أسلوبًا ذكيًا في رواية الأشجار ليست عمياء إذ اعتمدت على تقنية تعدد الأصوات، فجعلت السرد يتنقل بين شخصيات عدة، مانحة القارئ نظرة بانورامية لأعماق كل شخصية ولأوجه أزمتهم المختلفة، وفي كل صوت سردي كانت الكاتبة تحفر عميقًا في التناقضات الإنسانية بين الحقيقة والخيال بين الموت والحياة بين الإيمان بالواقع والاستماتة في رفضه، المفارقة الكبرى التي أسست لها الكاتبة كانت أن حبهان لا تدرك أنها ميتة؛ تعيش وتتنفس وتقوم بالأعمال المنزلية، توبخ أبناءها وتحلم بالمستقبل بينما عبود وحده يراها في حقيقتها الغامضة.
تكمن براعة رواية الأشجار ليست عمياء في أن هذا الموقف الكابوسي لا يتحول إلى رعب صرف، بل إلى استعارة سياسية عميقة، فحبهان تجسد الفلسطيني الذي يأبى مغادرة أرضه حتى لو اجتاحه الموت، والبيت الذي ترفض أن تبارحه رمز للوطن المفقود الذي يظل محفورًا في القلب والذاكرة رغم اقتلاعه قسرًا.
تطوف رواية الأشجار ليست عمياء بين الماضي والحاضر، بين فلسطين وأميركا، بين النكبة والانتحار، بين البيت الذي لا يغادره ساكنوه إلا قسرًا وبين أرواحهم العالقة بين عالمين، وتلجأ الكاتبة في رواية الأشجار ليست عمياء إلى السخرية السوداء أحيانًا، وإلى الحزن المتواري خلف الكلمات أحيانًا أخرى، فتجعل القارئ يضحك بمرارة عندما يخبر عبود عن ضحكة زوجته الميتة التي تخيفه، أو عندما يتساءل كيف يمكن لرجل أن يقنع زوجته أنها ماتت وعليها أن ترحل.
ومع كل صفحة جديدة في رواية الأشجار ليست عمياء تتعمق الفجوة بين الظاهر والباطن، بين الكلمات الصريحة وما تحمله من رموز لتغدو الرواية مرآة مشروخة تعكس حياة الفلسطيني الذي ينفيه العالم، لكنه يرفض الاعتراف بموته، متمسكًا بجذوره، كما تتمسك الأشجار بالحياة ولو كانت عمياء.
رواية الأشجار ليست عمياء ليست نصًا تقليديًا عن الفقد، بل صرخة ضد الفناء، هي وثيقة رمزية عن التشبث بالبيت والأرض والهوية حتى عندما تتآكل الملامح وينهار اليقين، هكذا تنسج الكاتبة لوحة متعددة الطبقات، تُقرأ كل مرة من زاوية جديدة، وتظل كل قراءة مغمورة بسؤال محوري: هل الأشجار حقًا عمياء، أم أن من حولها هم العميان؟