
للتواصل معنا
رواية معزوفة العطش للكاتب مهاب السعيد، ليست مجرد قصة تُروى بل عالم يتشكل ويتنفس بواقعه المفترض، حيث يستبدل الإيمان بالعلم، وتُمحى العقائد لتحل مكانها نظريات مادية صارمة لا تعرف روحًا ولا تتسع لغيبيات. يبدأ مهاب السعيد حكايته بنداء عابر "نيرال.. أسرعي.. بدأ الناس يستيقظون!" وكأن الحياة توشك على الانقلاب رأسًا على عقب، وكأننا على أبواب انكشاف سر ما. نيرال تلك الشخصية الغامضة التي لا يخبرنا الكاتب عن ملامحها أو عمرها تجرّنا إلى عمق تساؤل لا ينتهي: ما الذي ينتظرها؟ وما الذي ننتظره نحن بين الصفحات؟
في هذا العالم الفانتازي المتخيل، قد يكون العام 2050 مجرد إطار زمني أو محض رمزية، حيث تسود ديانة جديدة تُعرف بالكيمتية، وتنقلب فيها الموازين فيصبح العلم هو المعبد، والبراهين هي الآلهة، والإنسان مجرد "شيء" يخضع لنظام إنتاجي صارم. رواية معزوفة العطش تقدم هذه الفرضية بكثير من الجرأة وكثير من الأسئلة، فهل يمكن للعلم أن يعوّض غياب الإيمان؟ وهل يكفي المنطق وحده ليملأ فراغ المعنى؟
الحدث المفصلي الذي يشعل نار التساؤلات داخل النص هو انتحار جماعي مروّع من فوق أحد معالم المدينة. المتشيئون، أولئك الذين يرتدون عباءات بيضاء تتخللها خيوط خضراء، هم الضحايا، غير أن المفاجأة لا تكمن في الحادث نفسه بل في ردة فعل الناس. مشاعر باردة، انسحاب جماعي، وتبريرات جاهزة. هنا فقط تبدأ رواية معزوفة العطش في نزع الغطاء عن وجوه كثيرة، وتحفر عميقًا في قناعات الإنسان المعاصر الذي ظن أنه تجاوز الأسطورة وهو في الحقيقة قد غرق فيها مجددًا بثوب جديد.
ثم يظهر البروفيسور تومان نيقه، العالم الذي يسعى خلف حدود العالم، لا ليكتشف أرضًا جديدة، بل ليكسر تابوًا فكريًا يتمسك به مجتمع الكيمتيين، وهو أن هناك نهاية للعالم أثبتها شخص يُدعى "سولي تراك". المفارقة المؤلمة أن من يدّعون التحرر من الخرافة وقعوا في أسطورة جديدة لا تقل سذاجة عن غيرها. هذا الصراع الفلسفي بين نيقه ومساعدته كالينا يسلط الضوء على التناقض البشري الذي يبدّل شكله لكنه لا يتغير جوهره.
رواية معزوفة العطش تسير بخطى مدروسة نحو نقطة حرجة، حيث يتساوى البشر في مصنع "ليبتنس"، إذ تتحول الكائنات البشرية إلى أشياء، وتُقاس قيمتها بالإنتاجية وحدها. حين تنتهي فائدة الإنسان يُحرق كما تُحرق النفايات. هل هذه نهاية الحكاية؟ أم بدايتها؟ هل فقدنا نيرال إلى الأبد؟ أم ستعود من جديد لتكشف لنا مغزى الرحلة؟ هذه الأسئلة تُعشش في قلب القارئ حتى آخر كلمة من النص.
في قلب هذه الدراما الغامضة يكمن تمرد الكاتب على كل ما هو مسلم به، وعلى كل قيد خفي نحياه باسم الحداثة أو الواقعية أو التنوير. رواية معزوفة العطش تمسك بالخيط من منتصف المتاهة وتدعونا للبحث معه لا عن الحقيقة فحسب، بل عن الذات التي تاهت في زحام العقل البارد والآلة العمياء. كل مشهد يترك وراءه سؤالًا وكل سؤال يقود إلى معنى قد لا يكون واضحًا الآن لكنه سيظهر مع اكتمال اللوحة.
وربما كان سر قوة رواية معزوفة العطش في أنها لا تمنحك إجابات جاهزة بل تتركك تتخبط في شكك كما تتخبط شخصياتها، بين الألم والدهشة، بين الشك واليقين، بين المعرفة والفراغ. هل رأيت يومًا معزوفة من العطش؟ هذا النص يعزفها لك، نغمة بنغمة.