
للتواصل معنا
رواية دراما في الصيد للروائي العظيم أنطون تشيخوف، ليست مجرد حكاية عن جريمة قتل بل مرآة مشروخة لمجتمع يتداعى من الداخل، بأسلوب سردي مُباغت، يبدأ تشيخوف الرواية من محرر يقرأ مخطوطة كتبها شخص يدعى زينوفي بوريكوف، وما إن تبدأ القراءة حتى ينسحب السرد إلى عمق الغابة، إلى ضباب الريف الروسي، حيث تتشابك الأرواح ويتقاطع القدر مع الفساد.
زينوفي بوريكوف ليس رجلًا عاديًا، بل هو محقق قضائي، يفترض به أن يكون حاميًا للعدالة، لكنه في رواية دراما في الصيد هو الذي يروي عن نفسه جريمة القتل، لا يُقبض عليه ولا يُحاكم، بل يُكتب عنه بيده، ومن هنا يزأر سؤال عارٍ: من يملك الحقيقة؟ هل نثق بالراوي القاتل؟ وهل تُروى الجرائم من أجل العدالة أم للتطهير؟
بطلات رواية دراما في الصيد ليس لهن من الطواعية شيء، أولغا أوربينينا تمثل الجمال والضعف والدهاء في آن واحد، تضحي بنفسها من أجل المال، لا لأنها شريرة بل لأنها حُوصرت، كايتانكا أيضًا مهووس بالثراء، الكونت كارنيف، رجل تافه رغم سلطته، كل شخصية تبدو ضحية ومجرمة في الوقت ذاته، وهذا ما يجعل الرواية درامية حتى نخاعها، فالأخلاق ليست خطوطًا مستقيمة بل تشابكات غامضة.
في رواية دراما في الصيد الغابة ليست مكانًا فحسب، هي كيان يلتهم ضوء العقل ويكشف ظلال النفس، تشيخوف يرسم روسيا الريفية لا كديكور بل كفاعل حقيقي، الأماكن في الرواية ليست ساكنة، هي تنبض بشعور الانهيار الداخلي لشخصيات الرواية، كأن الفساد لا يسكن الناس فقط بل يسري في الأشجار والماء والهواء.
ما يجعل رواية دراما في الصيد متفردة هو أنها تسبق زمنها، فالقاتل ليس شخصًا غامضًا يُكتشف في النهاية، بل هو الراوي نفسه، قبل أن تفعل ذلك أجاثا كريستي بسنوات طويلة، تشيخوف يكشف عن النفس البشرية دون زينة، ليست هناك إثارة خارجية بل توتر داخلي، الغموض هنا لا يتعلق بمن القاتل بل لماذا قتل وكيف عاش بعدها.
زينوفي يعترف لكنه لا يطلب المغفرة، نهاية الرواية مفتوحة على شكوك كثيرة، هل ما قاله هو الحقيقة الكاملة؟ هل ثمة ضحية أخرى لا نعرفها؟ هل هذه الرواية مجرد هذيان رجل مذنب؟ رواية دراما في الصيد تتركك مع الأسئلة لا الأجوبة، وهذا ما يمنحها تلك النبرة القاتمة والواقعية.
رغم أنها الرواية الوحيدة لتشيخوف، ظلت رواية دراما في الصيد في الظل لسنوات، كتبها في بداياته ونشرها على أجزاء ولم يعد إليها لاحقًا، لكن مع الوقت، أدرك النقاد أن فيها عبقرية تشيخوف المتوارية، فيها استبصار بالمجتمع، ونظرة مريرة للعدالة، وقدرة نادرة على تفكيك دوافع الإنسان المتناقضة.
في النهاية، لا تكتفي رواية دراما في الصيد بإعادة تعريف الرواية البوليسية، بل تُقدّم دراما نفسية عن إنسان يُخفي داخل ملامحه قاضٍ وجلاد، عن غابة ليست بعيدة عن المدينة، بل في قلب كل إنسان، وهل هناك صيد أقسى من أن يصطاد الإنسان نفسه؟