
للتواصل معنا
ملخص كتاب الجفر، هل يمكن أن يُكتب المستقبل في جلد ماعز؟ هذا هو السؤال الصادم الذي يفرضه كتاب الجفر على قارئه، بين من يراه مرآة الغيب المقدّس، ومن يراه منبعًا للدجل والخرافة، يبقى كتاب الجفر واحدًا من أكثر الكتب إثارةً للجدل في التراث الإسلامي، وهو الكتاب الذي يُنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب وأحيانًا ينسب إلى جعفر الصادق بحسب اعتقاد الشيعة، وتدور حوله قصص عجيبة، تُسند له القدرة على الكشف عن علم ما كان وما سيكون.
بحسب الرواية الشيعية، فإن كتاب الجفر وُرّث من النبي محمد إلى ابن عمه علي، ثم إلى ذريته من الأئمة الاثني عشر، ويقال إن هذا الكتاب يتكوّن من صندوقين جلديين، يحتويان على كتب الأنبياء السابقين، ويتوارثه الأئمة مع درع النبي وسيفه، ويرى الشيعة أن جعفر الصادق امتلك شرف امتلاك كتاب الجفر، وقد اشتمل على علوم مخفية لا يعرفها سواه، بل إنهم يعتقدون أن المهدي المنتظر يحتفظ الآن بهذا الكتاب، وأنه سيظهر به ليعيد ترتيب العالم.
في القرن العشرين، خرجت نسخة جديدة من كتاب الجفر منسوبة للشيخ محمد ماضي أبو العزائم، وتحدث فيها عن تنبؤات مستقبلية تخص الأمة الإسلامية، من سقوط أنظمة، واندلاع حروب، إلى بشرى بقيام دولة للعدل على يد المهدي المنتظر من مصر، بعض أتباعه يرون أن أحداثًا كثيرة تحققت بعد وفاته كما تنبأ بها، وأخرى تنتظر التحقق في زمن قادم، وهكذا أصبح كتاب الجفر عندهم ليس فقط نصًا دينيًا، بل مشروعًا كونيًا لتفسير التاريخ القادم.
رغم ما ينسب إلى كتاب الجفر من قداسة في بعض الفرق، إلا أن علماء أهل السنة ينكرون هذه النسبة تمامًا، فالصحابي أبو جحيفة سأل عليًا عن علم خاص لا يعلمه الناس، فأجابه بأن ما عندهم فقط هو فقهٌ يُستنبط من القرآن، وما في صحيفة تتعلق بالأسرى وبعض الأحكام الشرعية، وهذا تصريح صريح بأن لا كتاب سري، ولا غيب موكول لعلي، فكيف يُزعم إذن أن الغيب مكتوب في جلد شاة؟
يؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية أن كتاب الجفر، وما يُنسب إليه من رموز وجداول وأسرار، لا أصل له، بل هو من مفتريات الباطنية والقرامطة الذين أرادوا أن يجعلوا لأفكارهم سندًا من أهل البيت، ويصف هذا الكتاب بأنه أصل لمذاهب الفلاسفة الضالين، ويؤكد أن علم الغيب لا يعلمه إلا الله، ولا يطلع عليه أحد حتى من الأنبياء إلا بوحيٍ محدود.
القرآن الكريم لا يترك مجالًا للشك حين يقول {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}، ويقول النبي نفسه {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير}، وهذا تصريح يفند كل ما يُنسب إلى كتاب الجفر من معرفة للمستقبل أو تحكم في أحداث الزمن، فهل يُعقل أن يُحجب عن خاتم الأنبياء علم الغيب، ثم يُفتح لبشر بعده؟
لماذا لا يزال البعض يصدق بوجود كتاب الجفر رغم نفي كبار العلماء؟ ربما لأنه يقدّم للناس ما يحبون سماعه، توقعات، ووعود، ونبوءات تملأ الفراغ الروحي والسياسي في عالم مضطرب، لكنها في جوهرها محاولة للعب دور الإله في كتابة مصير البشر.
كتاب الجفر، سواء في صورته القديمة أو في نسخة جفر أبي العزائم، يضع القارئ أمام خيارين: إما أن يرى فيه ميراثًا نبوياً مقدسًا، أو أن يعامله كوثيقة مزورة من خيال الباطنية، وبين هذا وذاك، يبقى كتاب الجفر مرآةً للجدل الطويل بين العقل والنقل، بين الوحي والهوى، بين الإيمان بالغيب، والدعوى الكاذبة إلى امتلاكه.